اخر مرة زرت فيها القدس كانت عندما كنت في العاشرة من عمري, قبل خمسة عشر عاماً ... تعقدت الامور كثيرا خلال هذه المدة واصبح شبه مستحيل لأي كان دخول القدس .. اصبحت القوانين صارمة جدا وهيهات الدخول اليها دون تصريح ( اذن دخول ).
منذ شهر انضممت لرحلة تضم القدس ويافا وطبعا لاجل ذلك كان علي ان اتقدم بطلب تصريح لأجل ذلك, صار هاجس رؤية القدس يلازمني ليل نهار .. شهر من الانتظار انتهى بمكالمة هاتفية تقول لي اني حصلت على التصريح .. بالطبع شعرت بالفرح ولكن خوفي لم ينتهي .. لا يزال هناك حاجز علي عبوره .. حاجز قلنديا .. قد احمل اذيال خيبتي واعود من هذا الحاجز .. لماذا ؟ ببساطة لان جنود الاحتلال يستطيعون ذلك ..
جاء اليوم الموعود .. لم استطع النوم في الليلة السابقة ابدا .. كان الشعور العام وكأني سأقابل فردا من عائلتي لم أره منذ 15 عاما واكثر .. نعم واكثر .. كيف لا وهي القدس .. عشق اخر ...
توجهنا باكرا جدا ووصلنا الى معبر قلنديا ...3ساعات من الانتظار والتفتيش والتدقيق والذل والخوف من العودة ولكن كل ذلك يهون في سبيل لقاء المعشوقة .. مرارة الانتظار انتهت بكلمة من جندي لا ادري من اي مكان قذر جاء ليملي اوامره علي , في ارضي وبين اهلي ليقول لي ( يلا روح )!!!
معبر قلنديا
20 دقيقة بعد المعبر أوصلتنا الى المدينة المقدسة ( مع العلم ان المسافة بين نابلس والقدس لا تستغرق 45 دقيقة ولكن الامر استغرق منا اليوم ما يقارب ال 4 ساعات !!) يا الهي أكاد أقسم ان الهواء هنا أنقى ويفوح مسكا , لم أعد اسمع شيئا حولي بعد ان قالت مشرفة الرحلة : "نحن الان في القدس وستلمحون بعد قليل قبة الصخرة لاننا على مشارف أسوار المسجد الاقصى" ...
"والقدس تعرف نفسها
اسأل هناك الخلق يدلك الجميع
فكل شيء في المدينة
ذو لسان حين تسأله يبين "
من خلف الزجاج كنت أتأمل كل التفاصيل الى ان لمحت من خلف الاسوار أعلى القبة الذهبية ليرسم ذلك المشهد ابتسامة عريضة على وجهي ولتتسارع دقات قلبي ... انها هناك .. لا زالت هناك .. خلف الاسوار !!
نزلنا عند باب العامود , وهو بوابة ضخمة كل حجر فيها يكاد ينطق بما مرت به هذه المدينة العظيمة .. ويقع باب العامود على السور القديم المحيط بالبلدة القديم وهو احد مداخلها.
"مررنا على دار الحبيب فردّنا عن الدار قانون الاعادي وسورها
فقلت في نفسي ربما هي نعمة فماذا ترى في القدس حين تزورها
متى تبصر القدس العتيقة مرة فسوف تراها العين حيث تديرها"
أسوار القدس
باب العامود
مشينا في ممرات واسواق القدس القديمة .. منذ ان دخلت باب العامود غاب كل شيء من عقلي ولم أعد أسمع سوى القدس ولا أتنفس الا القدس ولا أرى الا القدس ... رائحة العطور والبخور ستجبرك ان لا تفكر الا بالقدس .. رائحة الخبز فيها شيء اخر .. رائحة كل شيء فيها مختلف عنه في اي مكان اخر في العالم ...
"في القدس رائحة تلخص بابلاً والهند في دكان عطار في خان الزيت
والله رائحة لها لغة ستفهمها اذا اصغيت
وتقول لي اذ يطلقون قنابل الغاز والمسيل للدموع عليّ : لا تحفل بهم
وتفوح من بعد انحسار الغاز وهي تقول لي : أرأيت ؟ "
أسواق القدس
مشينا ومشينا الى ان وصلنا الى درج يفضي الى ساحات واسعة , لم ادرك اين وصلنا حتى استوقفنا احد حراس المسجد الاقصى وقال لنا : ( رجاءا البسوا ملابس الصلاة احترام لقدسية وحرمة المسجد الاقصى لانكم رح تدخلوا ساحاته ) ..
ما أن خطوت أول خطوة دخل ساحات الاقصى , رفعت رأسي لتقع عيناي على مشهد يخطف الانفاس .. انها قبة الصخرة .. تقف هناك بشموخ وكبرياء وجمال تعجز اللغة عن وصفه .. مشيت بضع خطوات فقط لاقترب منها اكثر وتسمرت مكاني وانا انظر اليها بملئ بصري .. في حضرة هكذا مشهد لا تملك ال ان تبكي .. تبكي من الرهبة , من الشوق , ومن الحسرة ومع ذلك تردد في قلبك كلمات الحمد والشكر لله ان رزقك زيارتها ..
قبة الصخرة , تقف هناك بكل عز وشموخ رغم وحدتها , ورغم الخذلان ,ورغم النكبات ,لاتزال شامخة تزهو بجمال لم ترى له مثيل ..
"في القدس تعريف الجمال مثمن الاضلاع أزرق
فوقه, يا دام عزك , قبة ذهبية
تبدو برأيي مثل مرآة محدبة , ترى وجه السماء ملخصا فيها
تدللها وتدنيها "
دخلنا الى داخل مصلى قبة الصخرة لصلاة الظهر .. وما ان تنظر حولك ستكتشف ان جمالها من الداخل يخطف الانفاس اكثر , ناهيك عن الهدوء والسلام والرهبة والخشوع الذي يغمر النفس والروح.. كل تفصيل حولك يشد انتباهك رغما عنك .. كل نقش وكل حرف يبدو وكأنه يروي لك ما مرّ على هذه المدينة عبر الزمان ..
"في القدس يرتاح التناقض والعجائب ليس ينكرها العباد
كأنها قطع القماش يقلبون قديمها وجديدها
والمعجرات هناك تُلمَس باليدين
في القدس لو صافحت شيخاً أو لمست بناية
لوجدت منقوشاً على كفًّيك نَصَّ قصيدة
يا ابن الكرام او اثنتين "
في منتصف قبة الصخرة تقبع الصخرة المشرفة التي عرج منها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام والى جانبها درد يتجه الى الاسفل يفضى الى مغارة تحتها .. في هذه المغارة لو نظرت الى الاعلى فسوف ترى فتحة منها عرج عليه الصلاة والسلام الى السماء... شعور لا يوصف وانت تقف في مكان وقف فيه سيد الخلق عليه افضل الصلاة والسلام ...
مضى الوقت سريعا وكان لا بد ان نغادر .. ولكن كيف لشوق 15 عاما ان يشفيه لقاء ساعات .. ولماذا لا استطيع العودة متى اردت !! تمنيت للحظة ان تغلق كل الحواجز علّني اظل حبيسة في القدس .. غادرت ولكن قطعة من القلب ظلت هناك مع امنية علقتها على اسوار القدس بأن اعود قريبا ..
"العين تغمض ..ثم تنظر ..سائق السيارة الصفراء مال بنا شمالا ..نائيا عن بابها.. والقدس صارت خلفنا..
والعين تبصرها بمرآة اليمين..تغيرت ألوانها في الشمس ..من قبل الغياب..
إذ فاجأتني بسمة.. لم ادري كيف تسللت في الدمع ..قالت لي وقد أمعنت ما أمعنت ..
يا أيها الباكي وراء السور ...
.. أحمق أنت..
.. أجننت..
لا تبكي عينك أيها المنسي من متن الكتاب..
لا تبكي عينك أيها العربي ..
واعلم انه في القدس من في القدس ..
لكن
لا أرى في القدس إلا أنت.."
إذ فاجأتني بسمة.. لم ادري كيف تسللت في الدمع ..قالت لي وقد أمعنت ما أمعنت ..
يا أيها الباكي وراء السور ...
.. أحمق أنت..
.. أجننت..
لا تبكي عينك أيها المنسي من متن الكتاب..
لا تبكي عينك أيها العربي ..
واعلم انه في القدس من في القدس ..
لكن
لا أرى في القدس إلا أنت.."
**ملاحظة
جميع الشعر المذكور في هذه المدونة هو للشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق